٢/١١/٢٠٠٨

حديث حول المرجعية

حديث حول المرجعية



أحسب أن تحديد المرجعية واستقلالها من أهم المسائل التي تواجه الحركات الفكرية والسياسية والاجتماعية في العالم. ففي عالم تتلاطم أمواجه وتتضارب تياراته، وتتسارع حركته وتغيراته. لابد للإنسان فردا أو جماعة من مسايرة التطور المستمر لكي يظل على صلة بحركة التاريخ، أو لكي لا يخرج من الدنيا، ويسقط تحت عجلات التاريخ المسرعة. ولكن في الوقت ذاته، لابد أن يظل الإنسان نفسه، لابد أن يحافظ على هويته وذاته. لكي يكون جزءا من التاريخ، وإلا استحال مسخا لا يعرف أحد ما هو.

ولذا كان من الضروري أن يحدد الإنسان مرجعية ثابتة يحكم بها مساره، ويضبط بها اتجاهاته في الحركة مع تيارات الحياة والتطور. وعليه أن يحسن فهم مرجعيته، ويحسن به أن يفهم مرجعيات الآخرين، حتى يدرك الفرق بينه وبينهم، وما يميزه عنهم وما يميزهم عنه.

فالمرجعية، هي التي تحميك من الانجراف وراء المتغيرات، والضياع في مسارات غير محددة، كالسائر في وسط المحيط دون بوصلة، أو دون أن يربط اتجاهه بنجم في السماء. فهو قد يدور حول نفسه إلى أن يهلك، وقد يقذف به البحر إلى أي شاطئ. وهو في ذلك كله لا يملك من أمره شيئا، ولا يعرف أين هو في البحر.

واستقلال المرجعية لا يعني الجمود أو التحجر، أو التنكر لما وصل إليه الفكر البشري، ولكنه يعني الاستقلال في النظرة والرؤية والحركة والمسير. فأنت تتحرك وفق ماتراه أنت صوابا أو نافعا أو صالحا، حسب المرجعية التي تقيس أنت بها. ولست تابعا في ذلك لأحد. فأنت تقيس ما وصل إليه الآخرون وفق مرجعيتك المستقلة، فما وافقها كان حسنا ولك أن تأخذ به كما هو، أو تعمل على تعديله وتطويره حسب مرجعيتك، وإن كان معارضا ومخالفا لها فلا تقبله ولا تعمل به.

واستقلال المرجعية مبدأ مهم يجب أن ينظر فيه بحرص. وإلا فقد ينقلب الحرص على الحداثة إلى تبعية، وقد يقود الحرص الشديد على الإستقلال إلى تبعية مضادة.

فالتبعية هي مانراه من كثير من "المثقفين" ذوي اللسان العربي، والعقول الغربية. الذين كلما ناقشت أحدهم قال "هذا ما وصلت إليه أوروبا"، "وهذه هي المبادئ المتفق عليها من العالم المتحضر"، أو كما قال أحد كبارهم "علينا أن نتبع أوروبا، ونحتذي بهم في الخير والشر، والنافع والضار". أوَلوْ كان ما جاء به الغرب فسادٌ تامٌ، وظلمٌ بيّن؟ فالغرب أباح زواج الشواذ، وقنن الزنا والدعارة، فهل من المطلوب إتباعه في ذلك؟

تلك تبعية مريضة، وانهزام مذل.

والتبعية المضادة (التي أراها كمينا يسقط فيه الكثيرين) هي رفض كل ما جاء من الغرب. لمجرد أنه من الغرب. مع أننا تعلمنا في الإسلام أن الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق الناس بها. فإن كان في الغرب خير، فلم نتركه؟ فالغرب يقدم إتقان العمل، ومحاسبة أهل السلطة، ونزاهة الانتخابات، وكثير من قوانين المساواة بين الناس، فهل نرفض ذلك لأن الغرب دعا إليه؟

ذلك تعصب مقيت، وجهالة فاضحة.


ولا يحسن بنا أن نكون من أهل التبعية المريضة، ولا التعصيب المقيت. فنحن أمة الوسط، . والاستقلال هو الوسطية المبصرة بين الاتباع الأعمى، والرفض الأعمى.


فنحن، أهل الإسلام، مرجعيتنا هي الإسلام. الإسلام كما جاء في كتاب الله وسنة نبيه، هذه هي مرجعيتنا الأولى. يدعمها تاريخ من البحث والسوابق وتراكم الخبرات، التي تقدّر ولا تقدّس. وهذه المرجعية تمثل الأساس الذي نقيس به كل ما يعرض لنا، من فكر بشري، سواء جاءنا من عندنا، أو جاء من الشرق أو الغرب. وقد استفاد المسلمون منذ قيام دولة الإسلام (في عهد النبي صلى الله عليه وسلم) من منجزات الحضارة البشرية، وتطور الفكر البشري يقدر ما احتاج إلى ذلك، وبقدر ما كان ذلك موافقا للإسلام. وقد يبدو ذلك أوضح ما يكون في حروب الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد استخدم الخندق، وهو من أساليب الفرس، واستخدم الدبابات والعرادات في حصار الطائف وهي أسلحة لم تكن مألوفة لدى العرب. وهي مجلوبة من بلاد الفرس والروم والأحباش. (أهل الحضارات في ذلك الزمن). ثم في عهد عمر بن الخطاب، أدخل نظام البريد وهو مقتبس، وأدخل الدواوين وهي مأخوذة عن الأمم الأخرى.فمن الجيد أن أقتبس من أي قوم ما كان نافعا في حضارتهم وكان موافقا لفهمنا للإسلام. فلا يجوز أن نرفض الحرية مطلقا لأن الغرب يدعو إليها، ولا ينبغي أن نبيح الربا والقمار لأن الغرب يربح منها.

فالمطلوب من أهل الدعوة الإسلامية، قيادة وأتباعا، أن يقيسوا أعمالهم وأفكارهم (وأعمال الغير وأفكارهم) بمقياس الإسلام، (الكتاب والسنة). لا بمقياس من يرضى ومن يسخط من أهل الأرض. فقد يخطئ عالم، وقد يزل قائد. وقد يخادعك الإعلام.

فلا يعني سخط الغرب على الإسلامي أنه على حق، إذ ربما يعاديك الآخر ولست على الصواب.. فالباطل قد يتعدد، ويتصارع أصحابه وكلهم على ضلال.. وقد رأينا صراع الرأسمالية والشيوعية عقودا طويلة، ولا يعني ذلك أن أحدهما على صواب أو على الحق.


ولا يعني رضا الغرب عن جماعة يوما أنها على ضلال، فكذلك قد يشيد بك الباطل، لاشتراككم في عدو واحد، مثلما حدث مع المجاهدين الأفغان، فقد أشادت بهم أمريكا ودعمتهم لأنهم يحاربون الاتحاد السوفييتي، ولا يعني ذلك أنهم كانوا على باطل في قتالهم له..

وكذلك يجب أن نميز بين الإسلام وأهله، فليس أحد من المسلمين يمثل وحده الإسلام بكامله. فكل عامل يصيب ويخطئ. وقد اختلف الصحابة رضوان الله عليهم. فلم يكفر أحدهم الآخر. حتى عندما وصل الأمر إلى القتال بينهم فقد قاتل علي رضي الله عنه من قاتله، وقال عنهم "إخواننا بغوا علينا". وكلهم نقلوا إلينا الإسلام كاملا. مع خلافاتهم في السياسة والفقه. فليس كل من انتقد الإسلاميين عدو لله ورسوله، محارب للإسلام، مباح الدم. فالخلاف بين أهل الإسلام وارد. وليس كل من دعا إلى الإسلام فقيها يتبع، وليس كل من تغنى بأمجاد المسلمين مخلص صادق. وكثير ممن انتقد الحركات الإسلامية كان مخلصا في النصيحة، قاصدا للخير، أصاب فيه أو أخطأ.


فالأمر، في ما أرى، أن أعرض الأعمال جميعها على مرجعيتي الأصلية، الكتاب والسنة، فما وافقها كان صوابا وخيرا، وما خالفها كان غير ذلك.. وكل عمل يقاس بقدر ما يقترب من هذا الأصل أو يبتعد عنه..


والله أعلم..







هناك ٦ تعليقات:

محمد مارو يقول...

ياااااااااااااااه يا اساااااااااذ حسن

تخيل انا كنت بسمع كتير عن المرجعيات
و خاصه الشيعيه
و كتير مش كنت فاهم

كنت بحسبها حاجه عند الشيعه و بس

انا بعد المقال ده حسيت انى فااااااااااااااااضى


اوووووووووووووى

انا كل اللى انا فيه انى مسلم و بس

مسلم و مؤمن بالله و برسوله و بتعاليمه

لا لى مرجعيه و لا حاجه

انا حاسس انى فاضى بجد

ع العموم

اشكرك و ديما كل اما ادخل مدونتك بخرج بشىء جديد و جديد و جديد اثابكم الله

ahmed mefrh يقول...

السلام عليكم اخى
موضوع فى غايه الاهميه
اهميته تظر بجلاء فى الوقت الراهن
لازدياد التبعات و الملمات التى تزداد على مجتمعنا

سلامى اليك
تحياتى ابو مفراح

حسن مدني يقول...

عزيزي مارو،
المرجعية في معناها الواسع هو القاعدة التي ننطلق منها في الحكم على الأمور.

الشيعة عندهم مراجع (أشخاص، علماء يرجعون إليهم في بيان حكم الإسلام - الذي هو المرجعية الكبرى). والسنة كذلك، وإن كانوا لا يستخدمون لفظ المرجع لأسباب يطول شرحها..

مادمت مسلما، وتنظر إلى الأمور في ضوء الحلال والحرام، فأنت ترجع إلى الإسلام، يعني مرجعتيك إسلامية.

تحياتي

حسن مدني يقول...

أخي أبو مفراح،

أشكرك جدا،،

تحياتي

Unknown يقول...

شكرا استاذنا الفاضل

حسن مدنى

تلاقينا هنا بعد فترة فى مكتوب واشكرك ثانية على مقالك الجميل ..فنحن فى حاجة دائما الى ان نذكر بعضنا البعض وطبعا انا موافقك على كل ماجاء به واهمه
نحن امة وسطيه
يجب التفريق بين الاسلام والمسلمين
لابد من مرجعية لكل منا بالبلدى اصلك وتربيتك التنى تربية عليها هى الفيصل فى تصرفاتك
اكتفى بذلك كى لا انقل كل المقال فى التعليق
بصراحة سررت جدا من مقالك والاكثر انا كنت باعتقد انك بحرينى وزادت سعادتى بكونك مصرى ( معلش انا بحب مصر قوى وبحب كل الناس الحلوه تكون من مصر ) ممكن تقول انانى مليش دعوة انا نفسى كل المتميزيين يكونوا مصريين

حسن مدني يقول...

أستاذي حسن توفيق

وأنا كمان نفسي كل المصريين يكونوا متميزين

تحياتي