٩/٢٨/٢٠٠٧

الرأي والرأي الآخر

الرأي والرأي الآخر


 

نحن جميعا نقر بحرية الرأي، حرية أن يعتنق من يشاء ما يشاء من الآراء والأفكار والمبادئ. وأن يعبر عن أيه كما يشاء حين يشاء. أو هذا ما نقوله جميعا. ولكن التطبيق تشوبه الكثير من النواقص. الأغلب على الناس أن صاحب الرأي يغضب إن قيل له أخطأت الرأي. ويصرخ بك "أنا حر في رأيي!" أو يهتف بك أنصاره "هذا اعتداء على حرية الرأي". مع أن رأيي في خطأ رأيك يحمل نفس قيمة الرأي. فهو رأي أمام رأي. فلماذا من حقك أن ترى رأيا وليس من حقي أن أرى أنك مخطئ.

صحيح أنني مطالب باحترام الرأي المختلف والرأي المخالف. ولكن لا بد أن يكون هذا المخالف "رأيا" ابتداء. ثم لا بد أن يكون جديرا بالاحترام. فكثير جدا مما يقال ويعلن وينشر باعتباره "رأي" لا يمثل إلا عبثا وهراء.لا يستحق احتراما ولا تقديرا ولا مناقشة.

كيف نكون رأيا؟

يتكون الرأي عند الناس من أجزاء ثلاثة. مقدمات، ومنهج، ونتائج.

المقدمات أو الأدلة هي الحقائق الثابتة والمعلومات المتيقنة والأسانيد التي يستند إليها الرأي ويعتمد عليها. وهذه المقدمات يجب أن تكون حقيقية صادقة، شاملة. غير منقوصة ولا مختلقة.

والمنهج هو أسلوب المعالجة أو وجهة النظر التي ينظر بها المفكر في المقدمات، ويعالج بها الحقائق. أو هي الطريق الذي يسير عليه العقل في ضوء الحقائق لكي يصل إلى هدفه. والمنهج لا بد أن يكون موافقا للعقل، مناسبا لمادة الحقائق التي تعالج. فمنهج الفكر القانوني أو الفقهي، يختلف عن منهج التجربة العلمية العملية. ومنهج بحث التاريخ المعتمد على الروية والآثار، غير منهج دراسة الاقتصاد والإدارة المبني على قراءة الماضي توقع المستقبل.

النتائج هي ما يتوصل إليه المرء بعد معالجة المقدمات باستخدام المنهج. أو هو الغاية التي يدركها العقل في سيره على النهج في ضوء الحقائق. وتختلف النتائج حسب المقدمات، والمنهج.

أحسب أن هذه بديهيات ينبغي أن تكون معلومة لكل أحد. ولكنني أحسب أن كثيرين يجهلونها او يتغافلون عنها عند إعلانهم رأيا، أو مناقشتهم لرأي.

عند مناقشة رأي معلن، أيا كان صاحبه أو موضوعه، لا بد أن تكون هذه المسائل حاضرة في ذهن من يناقش هذا الرأي.

المناقشة والجدل.

ومن أجل مناقشة مثمرة، وحوار بناء، لا بد أن يكون الهدف عند أطراف الحوار هو الوصول إلى الحقيقة، أينما كانت. أما السعي للانتصار للرأي، وإحراج الخصم، فهذا شأن المراء والجدال المذموم عند العقلاء والمذموم في الإسلام. فقد وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت في لجنة لمن ترك المراء وهو على حق. وقد يفترق المتحاوران وكل منهما على رأيه، ولا بأس من ذلك. وهذا ما قيل فيه اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.

وكذلك يجب التمييز بين الرأي وصاحب الرأي. فليس في الرأي كبير ولا صغير، ولا تابع ولا متبوع. فليس صواب الرأي نابعا من صاحبه، بل من أدوات الرأي ومنهجه. فإذا جاء الرأي الصواب من تلميذ قبلنا رأيه وتركنا رأي معلمه إلى الرأي الأصوب ولا يقلل هذا من علم المعلم ولا يحط من قدره. وقد نزل داوود على رأي سليمان (عليهما السلام) في قضية أصحاب الماشية التي نفشت في حرث القوم. وفهمها الله تعالى لسليمان. وكلاهما نبي يوحى إليه. بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم (وهو قدوتنا ومعلمنا) نزل على رأي الصحابي في منزل بدر. عندما قال له "الرأي أن تنزل عند أدنى ماء ثم تطم الآبار فنشرب ولا يشربون" . ولم يمنع الرسول صلى الله عليه وسلم كونه نبيا مرسلا، وحاكما مبايعا، وقائدا عسكريا مطاعا، أن ينزل على رأيه أتباعه إذا كان أصوب من رأيه الذي رآه.

وقد ورد مثل ذلك كثير عن الصحابة الكرام، رضوان الله عليهم، وعن التابعين والصالحين من الحكام والقادة والعلماء.

نعود إلى مناقشة الرأي نفسه.

تقتضي مناقشة الرأي وتقويمه أن يبدأ المرء في فحص المقدمات التي بني عليها الرأي. فينظر هل هذه الأدلة صحيحة صادقة. أم أنها مختلقة مزيفة. وهل هي شاملة جامعة أم أنها قاصرة أو متخطفة منتقاة للوصول إلى نتيجة موضوعة سلفا. فإن كانت الأدلة فاسدة أو مكذوبة. مثل من يستند إلى حديث موضوع، أو مكذوب. أو إلى تفسير متخيّل لنص من القرآن. أو إلى ما ظن أنه حقيقة علمية (وهو ليس كذلك) فإن رأيه يرد عليه. دون حاجة إلى النظر في المنهج. لأن المقدمات نفسها فاسدة.

مثل أن يقرر أحد أن المرأة أقل من الرجل لأن في فكها أسنان أقل من فك الرجل. (وهو ما كان يظنها قدماء الإغريق). فهذا رجل توقف به العلم منذ أكثر من ألف عام. أو مثل ذلك الذي فسر الآية الكريمة "وليضربن بخمرهن على جيوبهن". فقال والجيب كما نعرف فتحة ذات طبقتين، ثم بنى على ذلك شيئا، فهذه مقدمات تدعو للضحك، ولا تستدعي المناقشة. بل يقال لصاحبها أيا كان تعلم أولا قبل أن يكون لك رأي.

وقد تأتي المقدمات صحيحة ثابتة لكنها قاصرة أو منقوصة. فتؤدي إلى الخطأ في الاستدلال.

فهناك مثلا من قال

قال الله تعالى "لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة" وبنى على ذلك أن الربا إن لم يكن أضعافا مضاعفة فهو حلال. وبرغم أن الدليل الذي بنى عليه رأيه صحيح، وهو من القرآن. إلا أنه قصر في جمع الأدلة. لأن الله تعالى يقول "وأحل الله البيع وحرّم الربا" وقال تعالى "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا مما بقي من الربا..." فهذا رأي مردود، لنقص الأدلة.

وهذا يقودنا إلى ما سماه العلامة محمد شاكر ما قبل المنهج. أي جمع الأدلة أو جمع العلم، وإدراكه وفهمه بصورة صحيحة. لكي يستطيع الباحث أن يحسن النظر فيه، وأن يجيد الاستدلال به.

المنهج..

بعد الفراغ من فحص الأدلة والمقدمات، نأخذ في النظر إلى المنهج المطبق أو المنطق الفكري الذي تعالج بع هذه المقدمات. فننظر هل يؤدي بنا إلى النتائج التي وصل إليها صاحب الرأي، وهل يؤدي بنا بالضرورة إلى ذلك أم قد يؤدي بنا إلى ذلك الرأي وغيره. ثم كذلك ننظر إذا طبقنا نفس المنهج على ما يشابه ذلك من الحالات فهل يؤدي بنا إلى نتائج صحيحة أم أنه منطق فاسد خداع.

فنهاك رأي يقول إن أفراد هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المملكة العربية السعودية، يركتبون الكثير من التجاوزات،(وهي مقدمة صحيحة). إذن يجب إلغاء هذه الهيئة. (وهي نتيجة فاسدة). لأن المنطق نفسه إذا طبقناه في المجالات المشابهة، سنجد أن القضاة يخطؤون في الحكم أحيانا، فهل نلغي القضاء؟ ورجال الشرطة في كل بلاد الدنيا يتجاوزون، فهل نلغي نظام الشرطة؟ أم أن البشر في كل هذه المجالات مطالبون بالبحث عن إصلاح النظام وتوفير ضمانات للحد من هذه التجاوزات، وعلاج هذه الأخطاء؟

فإذا كانت المقدمات صحيحة صادقة شاملة، والمنهج سليما صحيحا، كانت النتائج أقرب ما تكون إلى الصواب. وقد يأتي آخر يعالج نفس المقدمات باستخدام فكر آخر ومنهج مخالف، فيصل إلى نتائج مغايرة ويستنبط أحكاما جديدة. ويكون لكل من الرأيين وجاهة واعتبار، ويظل من الطبيعي أن يثبت كل منهما على رأيه الذي ارتآه، وأن يكون لكل منهما أتباعه الذي يؤمنون برأيه، ولا بأس من ذلك. فلو أراد الله أن يكون الناس أمة واحدة لخلقهم كذلك.

هناك عشرات المناهج التي تبدو للنظرة الأولى منطقية عقلانية، ولكن بالبحث فيها قليلا تجدها فاسدة مضللة. وهناك مناهج مختلفة تحمل كلها قدرا من الصواب والتماسك. ويظل لكل منها قصورها في مجالات ومسائل. لأن الفكر عمل بشري في النهاية، وكل عمل بشري قاصر بالضرورة، والكمال لله وحده.

بعد أن يقوم الرأي على أدلته ومنطقه، يأتي من يناقش الرأي محاولا إثبات خطئه وبطلانه، بنقد أدلته وتفنيدها، أو بإثبات فساد الاستدلال. فإن تمكن من ذلك، سقط الرأي ولم يعد له اعتبار، أو على الأقل أصبح رأيا عرضة للشك والنقض. وإلا ثبت الرأي وتحول إلى حقيقة ثابتة, وهذه الحقيقة تدخل بدورها كمقدمة في رأي جديد يبنى عليها.

فمثلا كان الرأي القديم أن العين تطلق شعاعا يقع الأجسام فنراها، إلى أن جاء ابن الهيثم. فبحث في هذا الرأي فوجده لا يستقيم، وأثبت أن الضوء يقع على الجسم أولا ثم ينعكس على العين فتراه. ولما أثبت ابن الهيثم ذلك بالبحث والتجربة، ولم يستطع أحد إثبات خطأ هذا الرأي أصبح حقيقة عليمة راسخة، بني عليها علم البصريات، إلى يومنا هذا.

الرأي والمعلومة

من حقك أن تخطئ الرأي، ولكن ليس من حقك أن تخطئ العلم.

هناك فارق كبير بين الخطأ في الرأي، كالذي ينتج عن قصور في الدلائل أو خطأ في الاستدلال أو السهو أو غير ذلك، وبين الخطأ في المعلومة الثابتة. فالذين يدافعون عن رأيهم في أن الأرض مسطحة (وهم كثيرون في الغرب). هم يدافعون عن معلومة خاطئة. معلومة ثبت خطؤها من قديم. وأرجو أن لا يطالبني أحد باحترام "رأي" من يرى أن الشمس تشرق من الغرب.

فرق أخير بني الرأي والسباب، فمن حقك أن يكون رأيك أنني جاهل، وأن ما أكتبه هراء. بشرط أن تأتي بما يدل على ذلك. وإلا كان ذلك إساءة وتطاولا. من حقك أن ترى أنني مخطئ، ولكن ليس من حقك أن تسيء إليّ أو إلى غيري. سأتمسك برأيي مادمت أراه صحيحا، وسأتمسك حتى الموت بحقك أن تثبت على رأيك وتدافع عنه. ولكن هذا الحق الرأي لا يتضمن بحال الإساءة والتطاول البذاءة.

٩/١٦/٢٠٠٧

أفضل السبل لنصرة الإسلام

أفضل السبل لنصرة الإسلام

يحب جميع المسلمين أن يخدموا الإسلام، وأن يدعوا الناس إليه، ويسعد كل منهم أن يهدي الله به واحدا من الناس. ولكنهم يختارون سبلا مختلفة في الدعوة إلى الإسلام. بين الجدل والمناظرة، وتسفيه الأديان الأخرى، وبين عرض الإسلام والحديث عنه بشكل مستمر. وطبعا لا مجال للحديث عن التيار التكفيري مثل القاعدة أو ما ينسب إليها.

وأنا أحسب أن أفضل ما يقدمه المرء للإسلام هو أن يكون مسلما صالحا، ويحترم نفسه ودينه. وأن يكون حسن الخلق. فإذا فعل ذلك نال احترام الناس من كل الأديان، نال احترام الناس له ولدينه على السواء. أما الاتجاه إلى تسخيف الآخر وتسفيهه بدون مناسبة، فهو لا ينتج إلا رفض الآخر ونفوره مما تدعوه إليه.

لكي لا يساء فهم كلامي، نعم نحن مطالبون ببيان الإسلام والدعوة إليه، ولكن بالحكمة والموعظة الحسنة. فالحكمة تقتضي اختيار الوقت والمكان والأسلوب المناسب. أما أن أتعرض للناس كل حين بالتهجم والسخرية من أديانهم وعقائدهم، فلا تتوقع عندها إلا أن تقابل بالمثل. والموعظة الحسنة هي التي لا تنفر الناس مما تدعوهم إليه، ولا تبغضهم في ما تقوله.

وأنا أحسب أن أول الطريق للدعوة هو أن أنال احترام الناس لديني، وهذا لا يأتي إلا من احترامي لديني وتمسكي به. فمثلا منذ أيام رأيت لقاء للاعب المصري (أحمد حسن) يروي بعض ما يمر به في بلجيكا، وسئل عن مشكلة الصيام في رمضان وموقف المدرب، فقال: "لم تكن مشكلة، المدرب لم يكن فاهم للوضع، ولما عرف أنه (الصوم) فرض، ولا يمكن أن أفطر بسبب مباراة. تقبل الوضع. عندما تحترم دينك يضطر الجميع لاحترامه". مع أن زملاءه في الفريق من المسلمين يفطرون للمباريات. وأنا أتفق مع أحمد حسن في هذه العبارة تماما (عندما تحترم دينك يضطر الجميع لاحترامه) والروايات التي تدعم ذلك كثيرة.

واحترام الإسلام ليس فقط الغضب عندما يتكلم أحد عنه بسوء، أو يتطاول أحد عليه أو على نبي الله صلى الله عليه وسلم، وإنما احترامه الحقيقي يأتي بالالتزام به. الالتزام سواء بالعبادات أو الأخلاق والسلوك. لقد أدهش انتشار الإسلام كل الباحثين، كيف انتشر الإسلام بهذه السرعة في جميع أرجاء الأرض. إن أحد أهم أسباب انتشار الإسلام هو التزام المسلمين به في حياتهم اليومية، في العبادات والأخلاق. أعرف أسرة مسلمة في أمريكا، الرجل مسلم عادي، يصلى ويصوم ويراعي حق أسرته وناجح في عمله، والزوجة كذلك. وهي الأسرة الوحيدة في ذلك الشارع التي لم يسمع لها صراخ أو صياح. وهو البيت الوحيد الذي لا يدخله الخمر. ولا يعرف الخيانة. فكان جيرانه يسألونه عن سر الهدوء الذي تتمتع به أسرته، فأجابهم الإسلام. وكيف ذلك؟ فبدأ يشرح لهم كيف أن الإسلام يحرم الخمر والمخدرات والزنا، وكيف يرتب الإسلام العلاقات بين أفراد الأسرة، بصورة تحفظ للجميع حقوقهم، وتكفل لكل واحد منهم السعادة والراحة والأمن. وكان التعليق النهائي دائما لم نكن نعرف أن الإسلام كذلك. لأن صورة المتديّن عندنا دائما هو المتجهم العابس، كث اللحية، الكاره للدنيا وما فيها. (وهي صورة بغيضة منفرة، ساهم فيها إعلامنا وبعض دعاتنا أصلحهم الله).

ربما لم يدخل أحد منهم الإسلام،

ولكن نظرتهم إلى الإسلام والمسلمين تغيرت إلى الأفضل.


أحسب أن أهم ما يقدمه الإنسان للإسلام أن يكون مسلما كما يرضى الله ورسوله. لا أفهم أن يدافع إنسان عن الإسلام بمخالفة الإسلام، فيكون دفاعه أسوأ من العدوان الأول. وهو ما يفعله كثير من الناس، فتراه يسب المخالفين ويلعنهم ليل نهار. وإذا خالفته في قول أو رأي، وجدته لا يتحمل حوارا ولا جدلا. ويتهمك بكل التهم بدءا من الضلال وإتباع الشيطان، مرورا بالخيانة والكفر والزندقة. إلى اتهامات تتعلق بالشرف والكرامة لا محل لها في الموضوع. وما هكذا ينصر الإسلام. وما هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إن أهم ما جعل الناس تصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وتتبعه، هو أنهم لم يجربوا عليه كذبا قط، فصدقوه. وأنه كان على خلق عظيم فتبعوه. ولو كان فظا غليظ القلب لانفضوا من حوله.

فما بال كثير من الناس يزعمون نصرة الإسلام، ويخالفونه؟

ويزعمون نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحيدون عن سنته؟

ولو أنهم سكتوا لكان خيرا لهم وللإسلام.

والله أعلم..