٣/٠٩/٢٠٠٨

صواريخ حماس عبث أم بطولة

صواريخ حماس عبث أم بطولة

يكثر الحديث في كل وسائل الإعلام عن صواريخ المقاومة الفلسطينية. ويصفها الكثيرون بأنها صواريخ عبثية، أو مفرقعات العيد كما وصفها السيد كاسر الأرجل. والبعض يصمها بعدم الفعالية، وعدم التأثير، والبعض (عن جهل أو سوء نية) يصفها بأنها تسبب الأذى لأهل فلسطين. أو أن ضررها أكبر من نفعها. ويسوقون أسباب لتدليل على ذلك، منها أن عدد قتلى هذه الصواريخ في عام كامل، لا يساوي عدد شهداء غارة واحدة يشنها الطيران الإسرائيلي. ومنها أن هذه الصواريخ تعطي المبرر لجيش الاحتلال الإسرائيلي لينفذ عملياته الوحشية ضد أهل فلسطين. وأنها تفقد الشعب الفلسطيني التعاطف الدولي. وتضعف موقفه في "مفاوضات السلام". وهذا الحديث يدل على التباس كبير، في دور هذه الصواريخ، وأثرها، وفعاليتها، والمطلوب منها. وفي مفهوم المقاومة.

فالمقاومة كمفهوم عام، هي إعلان عملي مستمر لرفض الأمر الواقع الذي يريد العدو أن يفرضه على الأرض. وأنا أتحدث هنا عن مقاومة الاحتلال العسكري. وهي عمل لإبطال فعل العدو في تثبيت الواقع القائم المرفوض الذي هو الاحتلال. وبطبيعة الوضع أن العدو هو الأقوى في الميزان العسكري، وإلا لما كان الشعب في دور المقاومة. فالمقاومة هي دور الأضعف عسكريا لإبقاء الصراع حيا حتى تنقلب موازين القوى لصالحه. فكل حديث عن عدم التوازن العسكري هو من قبيل الضلال البيّن. سواء كان ناتجا عن سوء نية، أو نابعا من سذاجة مفرطة. فطبيعة الأمر أن الشعب الواقع تحت الاحتلال، لن يكون في هذا الدور في حالة وجود قوى عسكرية متساوية أو متقاربة. والهدف التقليدي لقوى المقاومة، هو جعل ثمن الاحتلال أكبر من قدرة المحتل على تحمله، أو جعل كلفة الاحتلال أكبر من منافعه. سواء كان ذلك على القياس الاقتصادي أو السياسي أو الأمني. فكل ما من شأنه أن يكلف العدو، فهو مفيد للمقاومة.

ونستطيع القول أن المطلوب من المقاومة في أي بلد هو بذل كل الجهود الممكنة لجعل بقاء قوة الاحتلال مستحيلة، سواء كان ذلك الجهد إيجابيا بتكبيدها خسائر في الأرواح أو المعدات، أو في قطع خطوط الإمداد، أو حتى في بث الرعب في نفوس العدو. أو كان سلبيا بالمقاطعة الاقتصادية والسياسية. والإضراب وغير ذلك. مادام الجهد يصب في خانة الإضرار بمصالح العدو. والقيمة هنا في قياس قدرة العدو على تحمل هذه المقاومة، وقدرة المقاومة على الاستمرار. والنصر لمن يثبت بعد صاحبه طرفة عين. ليس النصر لصاحب الخسائر الأقل. ولكن لمن تمكن في فرض إرادته في النهاية. فخسائر أهل الجزائر في حرب التحرير فاقت خسائر الفرنسيين كثيرا، ومع ذلك فقد كان النصر لأهل الجزائر بالتحرر من ربقة الاستعمار الفرنسي. وكان النصر حليف أهل فييتنام في حربهم ضد الاحتلال الأمريكي، برغم فظاعة خسائرهم قياسا بخسائر أمريكا. فليس المتوقع للمقاتل أن يعيش مرفها ناعما، بل إنه يعلم أن كل جهد يبذله للإضرار بعدوه يقابله سعي مقابل من العدو للإضرار به، بالحبس أو القتل أو النفي أو الحصار. فالحرب هي صراع إرادات، يبذل كل طرف فيه كل ما بوسعه لفرض إرادته وكسر إرادة عدوه. أما حرب الفنادق، والمؤتمرات فهي لا تغني فتيلا، ولا تحرر أرضا، ولا تصل إلى حق مسلوب. ومن يزعمون أن بلاد الدنيا تحررت بالمفاوضات، يتناسون أن وراء هذه المفاوضات حربا ومقاومة، فرضت على قوة الاحتلال أن تفاوض، لأن بقائها مع وجود المقاومة أصبح مكلفا. أما التفاوض فقط والتفاوض من أجل التفاوض، فهو عبث يخدم قوة الاحتلال. وقد رأينا سعد زغلول قديما يفاوض ومعه قوة الإضرابات الشاملة، ورأينا جمال عبد الناصر يفاوض بعد معارك الفدائيين في القناة. فلا بأس من التفاوض، إذا كان مقرونا بالسلاح. أما المفاوض الأعزل فلا أحد يسمع له قولا. ولا أحد يستجيب له.

هذه الصواريخ (التي توصف بالعبثية وعدم الفاعلية)، تحقق في الحقيقة عددا من الأهداف، لا يراها من لا يرى حقائق الصراع. فهي:

أولا: تثبت قدرة الشعب الفلسطيني على إعلان إرادته، وإن لم يتمكن من فرضها بعد. فمادام يقاوم، ومادام يغير تكتيك المقاومة من حين لآخر، بين العمليات الفدائية، والانتفاضة، والعمليات الاستشهادية، والعبوات الناسفة، ثم الصواريخ، ولا احد يدري ما يأتي غدا. وهذا يجعل العدو أقل قدرة على مجابهة هذه المقاومة، ويجعل الكثير من جهده مركزا على ملاحقة التطور في أداء المقاومة.

ثانيا: تؤكد قدرة المقاومة على تطوير أدائها، فهي تملك سلاحا صاروخيا، (وإن كان محدودا) وهو سلاح من الإنتاج المحلي، وهذا أمر مهم. لا تملكه معظم دولنا العربية. فليس لدينا بلد عربي يستطيع إنتاج صاروخ واحد. وكان آخر من عمل في هذا المجال صدام حسين، ثم قام تفكيك صواريخه قبل الحرب، وقامت أمريكا بتصفية الذين قاموا على تنفيذ المشروع. وعلى من ينتقد هذا السلاح أن ينتج خيرا منه، أن يمد المقاومة بسلاح أكبر أثرا. فليس للقاعد أن ينتقد الساعي.

ثالثا: تبث الرعب في نفوس المغتصبين للأراضي القريبة من مواقع المقاومة، والكل يعرف ما حدث في سيدروت، التي وصفت بأنها أصبحت مدينة أشباح. والرعب هو العدو الأول في الحرب. وأهل المناطق المعرضة للقصف يعانون من الأمراض النفسية، والانهيارات العصبية. حتى قيل إن أكثر الأعمال ربحا هو الطبيب النفسي في تلك النواحي. وهذا الرعب يؤثر في حركة الهجرة إلى فلسطين، ويؤثر على حركة الاستثمار فيها. وبالتالي يؤثر على كامل المشروع الاستيطاني الإسرائيلي.

رابعا: تكبد العدو خسائر مادية حقيقية، وإن كان يعوضها من راعيه الأمريكي الذي سرعان ما يستعيدها من أموالنا من خلال بيع منتجاته التي نخشى أن نفكر في مقاطعتها. ولكن هذه الخسائر تؤثر عليه في الحقيقة، وتضر باقتصاده وبدد بعض موارده.

ولا بد أن نأخذ في الاعتبار أن الاحتلال الإسرائيلي يمثل حالة خاصة، حيث أنه وضع حياة أو موت للطرفين، فليست إسرائيل دولة توسعت باحتلال أرض دولة أخرى مثلما كان الوضع في أفغانستان في حالة الاحتلال السوفييتي، أو في العراق وأفغانستان مع أمريكا حاليا، حيث يطالب الأفغان برحيل القوات الأمريكية. فنحن في حالة شعب يحاول إفناء شعب واحتلال مكانه. وشعب يسعى للبقاء في أرضه متشبثا بها حريصا عليها. ولا سبيل لإنهاء الصراع إلا بطرد أحد الشعبين وإذابته في بلاد أخرى. حتى تصفو الأرض لمن يبقى منهما. وسيظل الإسرائيلي دائما في سعيه لتهجير الفلسطينيين أو إفنائهم، حتى تخلو له الأرض. وهو يعتمد على المهاجرين في احتلال الأرض، والبقاء فيها، وفرض إرادته. فالمهاجرون هم سلاحه الأكثر بقاء. وهو أداته الأولى في صراعه. كما أن توالد الفلسطينيين، وتشبثهم بأرضهم هو أداتهم الأولى للبقاء. أما الورقة الثانية التي يملكونها هي حرمان العدو من سلاحه الأبعد أثرا، (الهجرة). وأول شروط الهجرة هو توافر الأمن وتوافر الفرص في البلد المستقبل للهجرة. فبلد بلا أمن وبلا فرص نماء اقتصادي، لا أحد يهاجر إليها. وهذا أحد أكبر آثار عمليات المقاومة، بكل أشكالها. نزع عنصر الأمن من الإسرائيلي، وبالتالي حرمانه من المهاجرين. الذين هم عماد مستقبله، وسر بقائه.

أما فكرة أن الصواريخ، أو أن أعمال المقاومة، تجلب انتقام العدو. فهي فكرة أقرب شيء إلى القول لفتاة تتعرض للاغتصاب، لا تصرخي لكي لا يضربك المعتدي. والقول بأن التعاون مع الاحتلال يمنح الشعب فرصة لحياة الرفاهية، فهي نفس نظرية الخروف الذي يطيع صاحبه من أجل الطعام والشراب، حتى يوم ذبحه. ولا أرضى لقومي أن يكونوا خرافا. وكذلك قول القائل إن الخبز يأتي قبل إرادة الشعب. هذا قول من لا كرامة له.

ولا تزال الصواريخ مستمرة، ولا تزال الحرب سجال.