٥/٢٤/٢٠٠٧

على هامش الفتوى الأخيرة

هذه ملاحظات حول ما ثار من جدل في شأن الفتوى الأخيرة لرئيس قسم الحديث في الأزهر، حول إرضاع الكبير لمنع الخلوة. وقد عدل الرجل عن فتواه، وأقر بخطئه فيها. وهو رجوع إلى الحق يشكر له. ولكنه لا يمنع من قراءة الموقف مرة أخرى لمنع مثل هذه التداعيات لفتوى خاطئة.
بداية لا بد أن نقر أن من يعمل معرض للخطأ، ومادمنا لا نقر العصمة لأحد من الناس. فلا بد أن من يتعرض للإفتاء (مهما بلغ علمه) معرض للخطأ. ولذلك فعلينا أن نسعى لتقليل هامش الخطأ في الفتاوى من ناحية. وتثبيت آليات مراجعة الفتاوى وتصويبها من جهة أخرى. بعيدا عن الإثارة الصحفية التي تعمل على التشكيك في المراجع والمرجعية الدينية. مما يحطم ثقة الناس بدينهم ورجاله. وهو هدف لكثيرين لا يخفى أمرهم على من يتابع هذا الأمر.

الهامش الأول حول مصدر الفتوى
فهي صادرة عن رئيس قسم الحديث في الأزهر. أي أن الشيخ عطية محدّث وليس فقيه. ليس مختصات بالفقه. فلم يكن له أن يصدى للإفتاء. وهذا ما قاله الإمام الغزالي رحمه الله في كتابه "السيرة النبوية بين أهل الحديث وأهل الفقه".
ودراسة الإسلام لمن لا يعرف متعددة التخصصات، فمنها دراسة الحديث، ودراسة التفسير، والفقه. والفقه نفسه أصبح الآن تخصصات، فمنه الفقه المالي، وفقه الأحوال الشخصية، وغيرها.. فحال هذه الفتوى يشبه أن يخرج علينا أخصائي تخدير في أكبر مستشفيات العالم ليقول أنه اكتشف طريقة جديدة لزراعة الكبد. صحيح أنه طبيب ولكنه غير مختص بزراعة الأعضاء.
كذلك المحدّث والفقه. فالمحدث عالم ولكنه ليس مختصا بالفقه والإفتاء. فالمحدث يحكم بمدى صحة الحديث سندا. وخلّوه من العلل في المتن. ويبين مناسبة الحديث وظروفه. وهنا ينتهي عمله. ويبدأ دور الفقيه، فيستخرج من هذا النص حكما، أو يغلب عليه نصا آخر. ويصدر فتواه بذلك.

الهامش الثاني هو ردود الأفعال حول هذه الفتوى
فقد انقسمت الردود والتعليقات حول الفتوى إلى قسمين
قسم من المخلصين: ومنهم الفاقهين ناقشها وردها وبين خطأها. ومنهم من اعترض من قديم على الفتاوى العلنية، باعتبار أن الفتوى خاصة بحالها. وأنها تشبه وصفة الطبيب لمريضه، فلا ينبغي أن تعمم على الناس، لأن أمراضهم وأحوالهم تختلف من فرد لآخر، ومن مكان لآخر ومن زمان لآخر. وكذلك الأزهر نفسه عندما شكل لجنة لمناقشة الفتوى، ومراجعة صاحبها فرجع عن رأيه، وأعلن أنه كان مخطئا في ما ذهب إليه. وهو رجوع إلى الحق يشكر له. و بعض من قليلي العلم، (حسن النية فيما نظن) قرر تكذيب الحديث الذي استندت إليه الفتوى. وهو تكذيب بغير علم ولا دليل، فهو أقبح من الفتوى الصادرة من غير صاحب اختصاص. لأن عدم فهمي للحديث الصحيح، أو القرآن، لا يسمح لي بتكذيبه. وإنما نرجع العلم لله، فهو أعلم وما أوتينا من العلم إلا قليلا.
القسم الآخر وأغلبه من المعادين للأزهر وما يمثله من مرجعية إسلامية، سعت للتصيد لرجاله، والبحث في أخطائهم. تحت دعاوى ظاهرها الإخلاص والإصلاح، وباطنا الهلاك والإهلاك. وكثير منهم جاوز القصد، والمنطق، والعقل الذي يتذرع به.
فانطلقوا في علمية تشهير وتحقير للرجل، والأزهر بتاريخه وحاضره، ورجاله وعلمائه. مطالبين العلماء بالسكوت والانسحاب من حياة الناس. وهذا باطل أشد البطلان. وكان الأصوب منه أن يطالبوا الأزهر بضبط علمية الإفتاء من خلال عمل جماعي، بدلا من أن يطالبوا الأزهر بالانسحاب. وسعوا في الغمز في رجال الأزهر وتاريخه. والسخرية في محل الجد. والتسخيف الذي لا يدخل أبدا في بابا النصيحة الواجبة.
والكل تكلم عن العقل وما يوجبه، ولكن لم نسمع لهم صوتا حين خرج علينا من أسموه (مفكرا إسلاميا) ليقول هراء تحت زعم التفسير الحديث للقرآن. منه (أن الحجاب المطلوب من المرأة أن تغطي ما تحت رقبتها، وما تحت الثدي، وما تحت الإبط، وماتحت الألية، وما زاد على ذلك فهو بحكم العادات ولا علاقة له بالدين) ومازال الرجل موضع ترحيب وتقدير في محافل العقلانيين. ولم يعترض كثيرون حين أفتى رجل غير عربي اللسان في تحريف القرآن الكريم معتمدا على سليقته!!!.
ومن لطيف التعليقات التي تكررت، أن قال البعض "إن الغرب قد خرجوا إلى الفضاء، ووصلوا إلى علوم الذرة، وأنتم مشغولون بنواقض الوضوء، وأحكام الطهارة" وهذا قول قد يبدوا عليه الذكاء لأول وهلة. ولكن الأجدر أن يقال هذا الكلام لمن انشغل بعلم غير نافع. فهو لم يقل هذا لمن انشغل بتحليل مباريات كرة القدم أو متابعتها. ولم يقل ذلك للجنة التحكيم في ستار أكاديمي. (باعتبار أن بالرقص والغناء والكرة تقام الحضارات وتنهض الأمم). أما الأخلاق وأحكام الطهارة، وحفظ الأنساب فهو عبث لا ترجى منه فائدة.
والصحيح أن علوم الدين والدنيا في الإسلام فرض كفاية. وفرض الكفاية من المفاهيم الملتبسة على كثيرين. فعلم الطب، والهندسة، والذرة، هي فرض كفاية. كما أن علوم الشرع والفقه والتفسير والحديث هي فرض كفاية. (أما نواقض الوضوء وأحكام الطهارة فهي فرض عين. إذ لا تصح صلاة بغيرها)
وفرض الكفاية هو ما يجب على عدد كاف من المسلمين القيام به. فإذا قام به عدد كاف سقط الفرض عن البقية، وإذا لم يقم به عدد كاف أثم القاعدون. عنه. ويدخل فيه كل ما يلزم الأمة لحياتها ونهضتها. من كل التخصصات والمجالات. فلا يعقل أن أهاجم من سد ثغرة على ترك جهة أخرى. ولكن سائلوا القاعدين عن العمل والعلم لم قعدوا. فهؤلاء علماء سعوا في سد ثغرة، فمنهم من أصاب وأحسن ومنهم غير ذلك. ولكن لهم أجر السعي. فأين القاعدون للتصيد، والتشهير. ماذا قدموا، وماذا فعلوا؟
فهذا كلام متصيدين للخطأ وليس كلام ناصحين مخلصين. صحيح أن الرجل (غفر الله لنا وله) أعطاهم الفرصة ليقولوا، ولعل في رجوعه إلى الحق ما يكفر عنه. ولعل في ذلك خير، أن نعرف البعض من لحن القول. وأن يتبين لنا الناصح الصادق من دعاة التشهير والتحقير.
الملاحظة الأخيرة عندي
أن الكل قد أدلى بدلوه في هذه الفتوى، العالم والجاهل. والكل جاء بأسانيد منها الصحيح ومنها دون ذلك. ولكن لم أر أحدا رجع إلى قول العلماء. ولم أجد من قال لا أدري. وهذه ظاهرة خطيرة. فأنا منذ نشأت لم أجد من يقول لا أدري في أي مسألة وأي شأن. في فقه أو طب أو سياسة أو علوم عسكرية. الكل يعلم والكل يفهم والكل يفتي.
مع أن الإمام الشافعي سئل في بضع وعشرين مسألة فقال لا أدري.
ومن قال لا أدري فقد أفتى.


٥/١٤/٢٠٠٧

علمني أبي 1


درس في التعامل مع الناس
وحوادث الأيام

حدث في أحد أيام صباي أن غضبت من أحد أقاربي، وقاطعته وقررت أن لا أكلمه. وبعد أيام رفضت خلالها عدد من الوساطات لإعادة الأمور إلى طبيعتها، دعاني أبي وسألني:"هل تنوي أن تقاطعه إلى الأبد؟ هل هذه هي الصورة النهائية للعلاقة بينكما كما تريدها؟" فأجبته:"لا. إنما هي أيام ويعود كل شيء إلى طبيعته."

فقال لي:" إذن لماذا تطيل الأمر؟ هل تنتظر حدوث شيء معين؟" قلت:"لا، سأنتظر بضع أيام ثم تعود الأمور كما كانت"

فقال :" كلما طال الوقت كانت العودة أصعب عليك وأصعب عليه. وحتى إذا عدتما أصدقاء كما كنتما فإن فترة القطيعة تترك أثرا في النفس يزداد كلما طالت المدة، ثم أنت اليوم تدعى إلى الصلح فتأبى، ثم تريد غدا أن تذهب - دون دعوة- إلى الصلح الذي أبيت. فأيهما أكرم لك أن تُدعى فتجيب أم أن تذهب دون دعوة؟ وما أدراك أن تأخذه العزة بعد قطيعتك له فيرفض الصلح. أنت بما تفعله تغلق باب العودة بينكما ربما إلى الأبد." فذهبت إلى قريبي وتصالحنا ومازال إلى اليوم من أقرب الناس إلي.

وقال لي أبي يوما:" إذا أردت أن تقاطع شخصا، فافعل دون كلام. لا تحتاج إلى أن تخبر الدنيا بذلك. فإذا أردت أن تعود إليه يوما كان من السهل عليك ذلك. أما إذا أعلنت عن رغبتك في مقاطعته كان من الصعب أن تعيد العلاقة إلى ما كانت. وإذا استطعت ذلك كان بثمن كبير. يا بني افتح لنفسك دائما خطا آمنا للتراجع. فإنك لا تدري ما يحدث غدا. لا تحاصر نفسك ولا تحاصر خصمك. فإنك إن حاصرت نفسك فقدت القدرة على تصحيح أوضاعك إذا احتجت إلى ذلك. وإذا حاصرت خصمك أجبرته على قتالك. إما إذا أتحت له فرصة الانسحاب المشرف دون أن تجرح كرامته فسيترك لك ما تريد. فتحصل منه على ما تريد بأقل ثمن ممكن. أما إذا حوصر فإنه سيقاتل من أجل حفظ ماء وجهه، فأنت بين أن تخسر ماتريد، أو أن تحصل عليه بثمن فادح."

كان هذان الدرسان أو هذا الدرس من جزئين، من أهم ما علمني أبي في التعامل مع الناس ومع حوادث الأيام. ومن أوائل ما علمني في هذا الشأن.